سورة النحل - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


ولما كان الرجوع إلى الإشراك بعد الإخلاص مستبعداً أيضاً لاستهجانهم سرعة الاستحالة، قال تعالى: {ثم إذا كشف} سبحانه عما تشركون {الضر} أي الذي مسكم {عنكم} ونبه على مسارعة الإنسان في الكفران فقال تعالى: {إذا فريق} أي جماعة هم أهل فرقة وضلال {منكم} أيها العباد! {بربهم} الذي تفرد بالإنعام عليهم {يشركون} أي يوقعون الإشراك به بعبادة غيره تغيراً منهم عما كانوا عليه عند الاستغاثة به في الشدة، فكان منطبقاً عليهم ما ضربوا المثل بكراهته بقولهم:
وإذا تكون كريهة أُدعى لها *** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وهذا أجهل الجهل.
ولما كان هذا ملزوماً بجحد النعمة، وكان من شأن العاقل البصير بالأمور- كما يدعونه لأنفسهم- أن يغفل عن شيء من لوازم ما يقدم عليه، قال: {ليكفروا} أي يوقعوا التغطية لأدلة التوحيد التي دلتهم عليها غرائز عقولهم {بما ءاتينهم} أي من النعمة، تنبيهاً على أنهم ما أقدموا على ذلك الشرك إلا لهذا الغرض إحلالاً لهم محل العقلاء البصراء الذين يزعمون أنهم أعلاهم، ورفعاً لهم عن أحوال من يقدم على ما لا يعلم عاقبته، ولا خزي أعظم من هذا، لأنه أنتج أن الجنون خير من عقل يكون هذا مآله، فهو من باب التهكم {فتمتعوا} أي فتسبب عن هذا أن يُقبل على هذا الفريق إقبال عالم قادر عليه قائلاً: تمتعوا {فسوف} أي فإن تمتعكم على هذا الحال سبب لأن يقال لكم تهديداً: سوف {تعلمون} غب تمتعكم، فهو إقبال الغضب والتهديد بسوء المنقلب، وحذف المتهدد به أبلغ وأهول لذهاب النفس في تعيينه كل مذهب.
ولما هددهم بإشراكهم المستلزم لكفر النعمة، أتبعه عجباً آخر من أمرهم فقال عاطفاً على قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}: {ويجعلون} أي على سبيل التكرير {لما لا يعلمون} مما يعبدونه من الأصنام وغيرها لكونه في حيز العدم في نفسه وعدماً محضاً بما وصفوه به كما قال تعالى: {أم تنبئونه بما لا يعلم} [الرعد: 33] {نصيباً مما رزقناهم} بما لنا من العظمة، من الحرث والأنعام وغير ذلك، تقرباً إليها كما مضى شرحه في الأنعام، ولك أن تعطفه- وهو أقرب- على {يشركون} فيكون داخلاً في حيز إذا أي فاجأوا مقابلة نعمته في الإنجاء بالإشراك والتقرب برزقه إلى ما الجهل به خير من العلم به، لأنه عدم لأنه لا قدرة له ولا نفع في المقام الذي أقاموه فيه؛ ثم التفت إليهم التفاتاً مؤذناً بما يستحق على هذا الفعل من الغضب فقال تعالى: {تالله} أي الملك الأعظم {لتسئلن} يوم الجمع {عما كنتم} أي كوناً هو في جبلاتكم {تفترون} أي تتعمدون في الدنيا من هذا الكذب، سؤال توبيخ، وهو الذي لا جواب لصاحبه إلا بما فيه فضيحته.
ولما بين سفههم في صرفهم مما آتاهم إلى ما هو في عداد العدم الذي لا يعلم، بين لهم سفهاً هو أعظم من ذلك بجعلهم لمالك الملك وملكه أحقر ما يعدونه مما أوجده لهم، لافتقارهم إليه وغناه عنه على وجه التوالد المستحيل عليه مع كراهته لأنفسهم، فصار ذلك أعجب العجب، فقال تعالى: {يجعلون لله} أي الذي لا معلوم على الحقيقة سواه لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام. ولما كان المراد تقريعهم، وكانت الأنوثة ربما أطلقت على كرائم الأشجار، نص على المراد بقوله: {البنات} فلا أعجب منهم حيث يجعلون الوجود للمعدوم المجهول، ويجعلون العدم للموجود المعلوم؛ ثم نزه نفسه عن ذلك معجباً من وقوعه من عاقل بقوله تعالى: {سبحانه}.
ولما ذكر ما جعلوا له مع الغنى المطلق، بين ما نسبوا لأنفسهم مع لزوم الحاجة والضعف فقال: {ولهم ما يشتهون} من البنين، وذلك في جملة اسمية مدلولها الثبات، ليكون منادياً عليهم بالفضيحة، لأنهم لا يبقون لأبنائهم ولا يبقى أبناؤهم لهم، وقد يكونون أعدى أعدائهم؛ ثم بين حالهم إذا حصل لهم نوع ما جعلوه له سبحانه فقال تعالى: {وإذا} أي جعلوا كذا والحال أنه إذا {بشر أحدهم} ولما تعين وزال المحذور، جمع بين الخساستين كما بين آخر الصافات فقال تعالى: {بالأنثى} أي قابل هذه البشرى التي تستحق السرور بحصول نسمة تكون سبباً لزيادة هذا النوع، وقد تكون سبب سعادته، دالة على عظمة الله- بضد ما تستحق مما لا يفيده شيئاً بأن {ظل وجهه} وكنى عن العبوس والتكدر والغبرة بما يفوز فيه من الغيظ بقوله تعالى: {مسوداً} أي من الغم والكراهة، ولعله اختير لفظ {ظل} الذي معناه العمل نهاراً وإن كان المراد العموم في النهار وغيره دلالة على شهرة هذا الوصف شهرة ما يشاهد نهاراً {وهو كظيم} ممتلئ غيظاً على المرأة ولا ذنب لها بوجه، والبشارة في أصل اللغة: الخبر الذي يغير البشرة من حزن أو سرور، ثم خص في عرف اللغة بالسرور، ولا تكون إلا بالخبر الأول، ولعله عبر عنه بهذا اللفظ تنبيهاً على تعكيسهم للأمور في جعلهم وسرورهم وحزنهم وغير ذلك من أمرهم.


ولما كان سواد الوجه والكظم قد لا يصحبه الخزي، وصل به قوله تعالى: {يتوارى} أي يستخفي بما يجعله في موضع كأنه الوراء لا اطلاع لأحد عليه {من القوم} أي الرجال الذين هو فيهم {من سوء ما بشر به} لعده له خزياً، ثم بين ما يلحقه من الحيرة في الفكر عند ذلك بقوله تعالى: {أيمسكه على هون} أي ذلك وسفول أمر، ولما كانوا يغيبون الموءودة في الأرض على غير هيئة الدفن، عبر عنه بالدس فقال تعالى: {أم يدسه في التراب} قال ابن ميلق: قال المفسرون: كانت المرأة إذا أدركها المخاض احتفرت حفيرة وجلست على شفيرها، فإن وضعت ذكراً أظهرته، وظهر السرور أهله، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها، فإن شاء أمسكها على هون وإن شاء أمر بإلقائها في الحفيرة ورد التراب عليها وهي حية لتموت- انتهى. قالوا: وكان الوأد في مضر وخزاعة وتميم.
ولما كان حكمهم هذا بالغاً في القباحة، وصفه بما يستحقه فقال مؤكداً لقبحه: {ألا ساء ما يحكمون} أي بجعل ما يكرهونه لمولاهم الذي لا نعمة عندهم إلا منه، وجعل ما يختارونه لهم خاصاً بهم.
ولما كان شرح هذا أنهم تكلموا بالباطل في جانبه تعالى وجانبهم، بين ما هو الحق في هذا المقام، فقال تعالى على تقدير الجواب لمن كأنه قال: فما يقال في ذلك؟ مظهراً في موضع الإضمار، تنبيهاً على الوصف الذي أوجب الإقدام على الأباطيل من غير خوف: {للذين لا يؤمنون} أي لا يوجدون الإيمان أصلاً {بالآخرة مثل} أي حديث {السوء} من الضعف والحاجة والذل والرعونة {ولله} أي الذي له الكمال كله {المثل} أي الحديث أو المقدار أو الوصف أو القياس {الأعلى} من الغنى والقوة وجميع صفات الكمال بحيث لا يلحقه حاجة ولا ضعف ولا شائبة نقص أصلاً، وأعدل العبارات عن ذلك لا إله إلا الله، ويتأتى تنزيل المثل على الحقيقة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في سورة الروم.
ولما كان أمره سبحانه وتعالى أجل مما تدركه العقول، وتصل إليه الأفهام، أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {وهو} لا غيره {العزيز} الذي لا يمتنع عليه شيء فلا نظير له {الحكيم} الذي لا يوقع شيئاً إلا في محله، فلو عاملهم بما يستحقونه من هذه العظائم التي تقدمت عنهم لأخلى الأرض منهم {ولو يؤاخذ الله} أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال {الناس} كلهم.
ولما كان السياق للحكمة، وكان الظلم- الذي هو إيقاع الشيء في غير موقعه- شديد المنافاة لها، وكان الشرك- الذي هذا سياقه- أظلم الظلم، قال معبراً بالوصف الشامل لما وقع منهم منه بالفعل ولما هم منطوون وهو وصف لهم ولم يباشروه إلى الآن بالفعل قال: {بظلمهم} أي يعاملهم معاملة الناظر لخصمه المعامل له بمحض العدل من غير نظر إلى الفضل، وعبر بصيغة المفاعلة لأن دلالتها على المناقشة أبلغ {ما ترك} ولما اقتضى الحال ذكر الظلم، وكان سياق هذه الآية أغلظ من سياق فاطر، عبر بما يشمل كل محمول الأرض سواء كان على الظهر أو في البطن مغموراً بالماء أو لا فقال تعالى: {عليها} أي الأرض المعلوم أنها مستقرهم المدلول عليها التراب، وأعرق في النفي فقال تعالى: {من دآبة} أي نفس تدب على وجه الأرض، لأن الكل إما ظالم يعاقب بظلمه، وإما من مصالح الظالم فيهلكه عقوبة للظالم، أو لأنه ما خلقهم إلا للبشر، فإذا أهلكهم أهلكهم كما وقع قريب منه في زمن نوح عليه السلام {ولكن} لا يفعل بهم ذلك فهو {يؤخرهم} إمهالاً بحكمته وحلمه {إلى أجل مسمى} ضربه لهم في الأزل.
ولما قطع العلم بالغاية عما يكون، سبب عن ذلك الإعلام بما يكون فيه فقال: {فإذا جاء أجلهم} الذي حكم بأخذهم عنده {لا يستأخرون} أي عنه {ساعة} أي وقتاً هو عام التعارف بينكم، ثم عطف على جملة الشرط من أولها قوله تعالى: {ولا يستقدمون} أي عن الأجل شيئاً.


ولما كان ما تقدم أمارة على كراهتهم لما نسبوه إلى الله تعالى، أتبعه التصريح بعد التلويح بقوله تعالى: {ويجعلون لله} أي وهو الملك الأعظم {ما يكرهون} أي لأنفسهم، من البنات والأموال والشركاء في الرئاسة، ومن الاستخفاف برسلهم وجنودهم والتهاون برسالاتهم، ثم وصف جراءتهم مع ذلك، الكائنة في محل الخوف، المقتضية لعدم التأمل اللازم لعدم العقل فقال: {وتصف} أي تقول معتقدة مع القول الصفاء، ولما كان قولاً لا حقيقة له بوحه، أسنده إلى اللسان فقال: {ألسنتهم} أي مع ذلك مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل {الكذب} ثم بينه بقوله: {أن لهم الحسنى} أي عنده، ولا جهل أعظم ولا حكم أسوأ من أن تقطع بأن من تجعل له ما تكره يجعل لك ما تحب، فكأنه قيل: فما لهم عنده؟ فقيل: {لا جرم} أي لا ظن ولا تردد في {أن لهم النار} التي هي جزاء الظالمين {وأنهم مفرطون} أي مقدمون معجلون إليها بتقديم من يسوقهم وإعجاله لهم؛ وقال الرماني: متروكون فيها، من قول العرب: ما أفرطت ورائي أحداً، أي ما خلفت ولا تركت، وقرأ نافع بالتخفيف والكسر، أي مبالغون في الإسراف والجراءة على الله. ولما بين مآلهم، وكانوا يقولون: إن لهم من يشفع فيهم، بين لهم ما يكون من حالهم، بالقياس على أشكالهم تهديداً، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال تعالى: {تالله} أي الملك الأعلى {لقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة، رسلاً من الماضين {إلى إمم} ولما كان الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، قال: {من قبلك} كما أرسلناك إلى هؤلاء {فزين لهم الشيطان} أي المحترق بالغضب. المطرود باللعنة {أعمالهم} كما زين لهؤلاء فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم {فهو} لا غيره {وليهم اليوم} بعد إهلاكهم حال كونهم في النار ولا قدرة له على نصرهم {ولهم عذاب أليم} فلا ولي لأنه لو قدر على نصرهم لما أسلمهم للهلاك وقد أطاعوه، بل لو عدموا ولايته كان ذلك أولى لهم، فهو نفي لأن يكون لهم ولي على أبلغ الوجوه.
ولما كان حاصل ما مضى الخلاف والضلال والنقمة، كان كأنه قيل: فبين لهم وخوفهم ليرجعوا، فإنا ما أرسلناك إلا لذلك {وما أنزلنا} أي بما لنا من العظمة من جهة العلو {عليك الكتاب} أي الجامع لكل هدى. ولما كان في سياق الدعاء والبيان عبر بما يقتضي الإيجاب فقال: {إلا لتبين} أي غاية البيان {لهم} أي لمن أرسلت إليهم وهم الخلق كافة {الذي اختلفوا فيه} من جميع الأمور ديناً ودنيا لكونك أغزرهم علماً وأثقبهم فهماً، وعطف على موضع {لتبين} ما هو فعل المنزل، فقال تعالى: {وهدى} أي بياناً شافياً {ورحمة} أي وإكراماً بمحبة.
ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم، نفاه بقوله تعالى: {لقوم يؤمنون} والتبيين: معنى يؤدي إلى العلم بالشيء منفصلاً عن غيره، وقد يكون عن المعنى نفسه، وقد يكون عن صحته، والبرهان لا يكون إلا عن صحته فهو أخص، والاختلاف: ذهاب كل إلى غير جهة صاحبه، والهدى: بيان طريق العلم المؤدي إلى الحق.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10